فصل: تفسير الآيات (4- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة الفرقان:

وهي مكية في قول الجمهور.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}
قوله تعالى: {تبارك}. هو مطاوع بارك من البَرَكَةِ، وبارك فاعَل من واحد، ومعناه: زاد، و{تبارك}: فعل مُخْتَصٌّ باللّه تعالى، لم يُسْتَعْمَلْ في غيره، وهو صفة فعل، أي: كَثُرَت بركاته، ومن جملتها: إنزال كتابه الذي هو الفُرْقَانُ بين الحَقِّ والباطل، والضمير في قوله: {لِيَكُونَ}.
قال ابن زيد: هو لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو عبده المذكور، ويُحْتَمَلُ أن يكون للفرقان.
وقوله: {وَخَلَق كُلَّ شَيْءٍ} عامٌّ في كل مخلوق، ثم عَقَّبَ تعالى بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لها صفاتُ الألوهِيَّةِ. والنشور: بعث الناس من القبور.

.تفسير الآيات (4- 6):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} يعني: قريشاً {إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه}: محمد، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ} تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل، ثم أكذبهم اللّه تعالى، وأخبر أَنَّهم ما جاؤوا إلاَّ إثماً وزوراً، أي: ما قالوا إلاَّ باطلاً وبُهْتَاناً؛ قال البخاريُّ: {تملى عَلَيْهِ} تقرأ عليه؛ من أمليت وأمللت، انتهى. ثم أمر تعالى نَبِيُّه عليه السلام أنْ يقول: إنَّ الذي أنزله هو الذي يعلم سِرَّ جميع الأشياء التي في السموات والأرض، وعبارة الشيخ العارف باللّه، سيدي عبد اللّه بن أبي جمرة رضي اللّه عنه: ولما كان المرادُ مِنَّا بمُقْتَضَى الحكمة الرَّبَانِيَّةِ العبادَةُ ودوامُهَا؛ ولذلك خُلِقْنَا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة، يعني: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الآية [الذاريات: 56].
وهو عز وجل غَنِيٌّ عن عبادتنا وعن كل شيء؛ لكن الحكمة اقتضته لأَمرٍ لا يعلمه إلاَّ هو؛ كما قال اللّه عز وجل: {الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} أي: الذي يعلم الحكمةَ في خلقها وكذلك في خَلْقِنَا وخَلْقِ جميعِ المخلوقات، انتهى.

.تفسير الآيات (7- 14):

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}
{وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام...} الآية: المعنى عندهم: أَنَّ مَنْ كان رسولاً فهو مُسْتَغْنٍ عن الأكل والمشي في الأسواق، ومُحَاجَّتُهُمْ بهذا مذكورة في السِّيَرِ، ثم أَخبر تعالى عن كفَّارِ قريش، وهم الظالمون المشار إليهم، أَنَّهم قالوا: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي: قد سُحِرَ، ثُمَّ نَبَّهَ تعالى نِبَيَّهُ مُسَلِّياً له عن مقالتهم فقال: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال...} الآية، والقصور التي في هذه الآية تَأَوَّلَهَا الثعلبيُّ وغيره أَنَّها في الدنيا، والقصور هي البيوتُ المبنية بالجدرات، لأَنَّها قصرت عن الداخلين والمستأذنين، وباقي الآية بَيِّنٌ، والضمير في {رَأَتْهُم} لجهنم.

.تفسير الآيات (15- 18):

{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)}
وقوله سبحانه: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} المعنى: قل يا محمدُ لهؤلاء الكفرة الصائرين إلى هذه الأحوال من النار: أذلك خير أم جَنَّةُ الخلد، وهذا استفهام على جِهَةِ التوقيف والتوبيخ؛ لأَنَّ الموقِفَ جائز له أنْ يُوقِفَ مُحَاوِرَهُ على ما شاء؛ ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطإِ.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يعني الكفار، {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يريد كل شيء عُبِدَ من دون اللّه، وقرأ ابن عامر: {فَنَقُولُ} بالنون، قال جمهور المفسرين: والموقف المجيب كل من ظلم بأن عُبِدَ مِمَّنْ يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم، وقال الضَّحَّاكُ وعِكْرِمَةُ: الموقف المجيب: الأصنام التي لا تَعْقِلُ يقدرها اللّه تعالى على هذه المقالة، ويجيء خزيَ الكفرة لذلك أبلغ، وقرأ الجمهور: {نَتَّخِذَ} بفتح النون، وذهبوا بالمعنى إلى أَنَّه مِنْ قول مَنْ يَعْقِلُ، وأَنَّ هذه الآية بمعنى التي في سورة سبإ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ} الآية [سبأ: 40].
وكقول عيسى: {مَا قُلتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117].
وقولهم: {حتى نَسُواْ الذكر} أي: ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء- عليهم السلام-، وقرأ زيد بن ثابت وجماعة: {نُتَّخَذَ} بضم النون.

.تفسير الآيات (19- 24):

{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}
وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ...} الآية: خطابٌ من اللّه تعالى للكفرة، أخبرهم أنَّ مَعْبُودَاتِهم كذبتهم، وفي هذا الإخبار خِزْيٌ وتَوْبِيخٌ لهم، وقرأ حفص عن عاصم: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} بالتاء من فوق؛ قال مجاهد: الضمير في {يستطيعون} هو للمشركين، و{صرفاً} معناه رَدُّ التكذيب أو العذاب.
وقوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} قيل: هو خطاب للكُفَّارِ، وقيل: للمؤمنين، والظلم هنا: الشِّرْكُ، قاله الحسن وغيره، وقد يحتمل أنْ يعم غيرَه من المعاصي، وفي حرف أُبَيِّ: {وَمَنْ يَكْذِبْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}.
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين...} الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} ثم أخبر عز وجل أَنَّ السبب في ذلك أَنَّه جعل بعض عَبيدَهُ فتنةً لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، والتوقيف ب {أَتَصْبِرُونَ} خَاصٌّ بالمُؤمنين المحققين، قال ابن العربي في الأحكام: ولما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيه المناكر كَرِهَ علماؤُنا دخولَها لأرباب الفضل والمُقْتَدَى يهم في الدِّينِ؛ تنزيهاً لهم عن البقاع التي يُعْصَى اللّه تعالى فيها، انتهى. ثم أعرب قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين وعن عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه- أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ» رواه الترمذيُّ وابن ماجه، وهذا لفظ الترمذي، وزاد في رواية أخرى: «وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» ورواه الحاكم في المستدرك من عدة طرق، انتهى من السلاح.
وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا...} الآية: الرجاء هنا على بابه، وقيل: هو بمعنى الخوف، ولمَا تَمَنَّتْ كُفَّارُ قريش رؤيةَ رَبِّهِمْ أخبر تعالى عنهم أَنَّهُم عَظَّمُوا أَنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل.
*ص* {لَقَدْ} جواب قَسَمٍ محذوف، انتهى. والضمير في قوله: {وَيَقُولُونَ} قال مجاهد، وغيرُه: هو للملائكة، والمعنى: يقول الملائكة للمجرمين: حِجْراً محجوراً عليكم البُشْرَى، أي: حراماً مُحَرَّماً، والحِجْرُ: الحرامُ، وقال مجاهد أيضاً وابن جريج: الضمير للكافرين المجرمين، قال ابن جريج: كانت العرب إذا كرهوا شيئاً، قالوا: حِجْراً، قال مجاهد: عوذاً يستعيذون من الملائكة.
قال * ع *: ويحتمل أنْ يكونَ المعنى: ويقولون حرام مُحَرَّمٌ علينا العَفْوُ، وقد ذكر أبو عبيدة أنَّ هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها مَنْ خاف آخَرَ في الحَرَمِ، أو في شهرٍ حرامٍ إذا لقيه وبينهما تِرَةٌ؛ قال الداودِيُّ: وعن مجاهد: {وقدمنا} أي: عمدنا، انتهى.
قال * ع *: {وقدمنا} أي: حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، ومعنى الآية: وقصدنا إلى أعمالهم التي لا تَزِنُ شَيْئاً فصيرناها هباءً، أي: شَيْئاً لا تحصيلَ له، والهباء: ما يتطايرُ في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكادُ يَرى إلاَّ في الشمس، قاله ابن عباس وغيره، ومعنى هذه الآية: جعلنا أَعمالهم لا حُكْمَ لها ولا منزلة، ووصف تعالى الهباء في هذه الآية بمنثور، ووصفه في غيرها بمُنْبَثٍّ فقالت فرقة: هما سواء، وقالت فرقة: المُنْبَثُّ: أرَقُّ وأَدَقُّ من المنثورِ؛ لأَنَّ المنثورَ يقتضي أَنَّ غيره نَثَرَهُ، والمُنْبَثَّ كأنه انبثَّ من دِقَّتِهِ.
وقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ذهب ابن عباس والنَّخَعِيُّ وابن جريج: إلى أَن حساب الخلق يَكْمُلُ في وقت ارتفاع النهار، وَيَقِيلُ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فالمقيل: القائلة.
قال * ع *: ويُحْتَمَلُ أَنَّ اللفظة إنَّما تضمنت تفضيلَ الجَنَّةِ جُمْلَةً، وحُسْنَ هوائها؛ فالعرب تفضِّل البلادَ بحُسنِ المقيل؛ لأَنَّ وقت القائلة يُبْدِي فسادَ هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسناً حاز الفضل، وعلى ذلك شواهد.

.تفسير الآيات (25- 29):

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء} يريد: يومَ القيامة.
* ص *: {بالغمام} الباء: للحال، أي: متغيمة، أو للسبب، أو بمعنى عن، انتهى. وفي قوله تعالى: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً}: دليل على أَنَّهُ سهل على المؤمنين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إنَّ اللّهَ لَيُهَوِّنُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى المُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ أَخَفَّ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلاَّهَا فِي الدُّنْيَا» وعضُّ اليدين هو فعل النادم؛ قال ابن عباس وجماعةٌ من المفسرين: الظالم في هذه الآية عُقْبَةُ بْنُ أبي معِيطٍ؛ وذلك أَنَّهُ كان أسلم أو جَنَحَ إلى الإسلام، وكان أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يومَ أُحُدٍ خليلاً لعُقْبَةَ، فنهاه عن الإسلام، فَقَبِلَ نَهْيَهُ؛ فنزلت الآية فيهما، فالظالم: عقبة، و{فُلاَناً} أُبيُّ قال السُّهَيْلِيُّ: وَكَنَّى سبحانه عن هذا الظالم ولم يُصَرَّحْ باسمه؛ ليكون هذا الوعيدُ غيرَ مخصوصٍ به ولا مقصور عليه؛ بل يتناول جميعَ مَنْ فعل مثل فعله، انتهى.
وقال مجاهد وغيره: {الظالم} عام، اسم جنس، وهذا هو الظاهر، وأَنَّ مقصد الآية تعظيمُ يوم القيامة وذِكْرُ هوله بأَنَّهُ يوم تندم فيه الظَّلَمَةُ، وتتمنَّى أَنَّها لم تُطِعْ في دنياها إخِلاَّءَهَا، والسبيل المُتَمَنَّاةُ: هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نُهْيَةٍ تنبيهٌ على تجنب قرين السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة، و{الذكر}: ما ذَكر الإنسانَ أمر آخرته من قرآن، أو موعظة ونحوه.
{وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً} يحتمل: أَنْ يكونَ من قول الظالم، ويحتمل: أنْ يكون ابتداءَ إخبارٍ من اللّه عز وجل على وجه التحذير من الشيطان الذي بَلَّغهم ذلك المبلغ.

.تفسير الآيات (30- 34):

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}
وقوله تعالى: {وَقَالَ الرسول} حكاية عن قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتشكِيْهِ ما يَلْقَى من قومه؛ هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة: هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة، و{مَهْجُوراً} يحتمل: أَنْ يريدَ مُبْعَداً مقصيّاً من الهَجْر بفتح الهاء، وهذا قول ابن زيد، ويُحْتَمَلُ: أَنْ يريدَ مقولاً فيه الهُجْرُ بضم الهاء؛ إشارة إلى قولهم: شعر وكهانة ونحوه؛ قاله مجاهد.
قال * ع *: وقول ابن زيد مُنَبِّهٌ للمؤمن على مُلازمة المُصْحَفِ، وأَلاَّ يكون الغبارُ يعلوه في البيوت، ويشتغلَ بغيره، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ عَلَّقَ مُصْحَفاً، ولَمْ يَتَعَاهَدْهُ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَقُولُ: يَا ربِّ، هَذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً؛ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» وفي حلية النووي قال: وروينا في سنن أبي داود ومُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عن سعد بن عُبَادَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «لمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ، لَقِيَ اللّه تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمَ»، وروينا في كتاب أبي دَاودَ والترمذيِّ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى القَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ، وعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَو آيَةٍ أُوتِيها رَجُلٌ ثم نَسِيَهَا» تكلم الترمذي فيه، انتهى، ثم سَلاَّه تعالى عن فعل قومه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} أي: فاصبر كما صبروا؛ قاله ابن عباس، ثم وعد تعالى بقوله: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} والباء في {بِرَبِّكَ}: للتأكيد دَالَّةٌ على الأمر؛ إذ المعنى: اكتفِ بربك.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس وغيره: قالوا في بعض معارضاتهم: لو كان من عند اللّه لنزل جُمْلَةً كالتوراة والإنجيل.
وقوله: {كذلك} يحتمل أَنْ يكونَ من قول الكُفَّارِ؛ إشارةً إلى التوراة والإنجيل، ويحتمل أَنْ يكون من الكلام المستأنف وهو أولى، ومعناه: كما نُزِّل أردناه، فالإشارة إلى نزوله مُتَفَرِّقاً، والترتيل: التفريق بين الشيء المتتابع، ومنه تَرْتِيلُ القرآن، وجعل اللّه تعالى السبب في نزوله متفرقاً تثبيتَ قلب نَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم وأَنْ ينزله في النوازل والحوادث التي قد قَدَّرَهَا وَقَدَّرَ نزوله فيها، وأَنَّ هؤلاءِ الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم إلاَّ جاء القرآن بالحَقِّ في ذلك والجلية، ثم هو أحسن تفسيراً، وأفصح بياناً، وباقي الآية بَيِّنٌ تقدم تفسير نظيره، والجمهور: أَنَّ هذا المشي على الوجوه حقيقة، وقد جاء كذلك في الحديث، وقد تقدَّمَ ولفظ البخاريِّ عن أنس رضي اللّه عنه: أَنَّ رَجُلاَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللّه، أَيُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قال: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ في الدُّنْيَا قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال قتادة: بلى وَعِزَّةِ رَبِّنَا، انتهى.

.تفسير الآيات (35- 44):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب...} الآيات تنبيه لكفار قريشٍ، وَتَوَعَّدٌ أَنْ يَحِلَّ بِهِم ما حَلَّ بهؤلاء المُعَذَّبين؛ قال قتادة: أصحاب الرَّسِّ، وأَصحابُ الأيْكَةِ: قومانِ أُرْسِلَ إليهِما شُعَيْبٌ، وقاله وهب بن منبه، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذلك كَثِيراً} إبهام لاَ يَعْلَمُ حقيقتَه إلاَّ اللّهُ عز وجل، والتَّبَارُ: الهلاك، والقرية التي أُمْطِرَت مَطَرَ السوء هي: سدُوم مدينة قوم لوط، وما لم نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقظ، ثم ذكر سبحانه أَنَّهُم إذا رأوا محمداً عليه السلام قالوا على جهة الاستهزاء: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً}.
قال * ص *: {إِن يَتَّخِذُونَكَ} إنْ نافية، جوابُ إذا، انتهى، ثم أنس اللّه تعالى نَبِيَّه بقوله: {أَرَءَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ...} الآية المعنى: لا تتأسف عليهم ومعنى {اتخذ إلهه هواه} أي: جعل هواه مطاع فصار كالإله {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} أي: بل هم كالأنعام.
قلت: وعبارة الواحدي: {إِن هُم} أي: ما هم إلاَّ كالأنعام، انتهى.